الشادِرْ…

الشادِرْ…

  • الشادِرْ…

ثقافة وفنون قبل 9 شهر

الشادِرْ…

سهيل كيوان

كاتب فلسطيني

كثيراً ما نستعمل كلمة شادِر، خصوصاً في المناسبات التي يجتمع فيها عددٌ كبير من الناس أمام البيت، وذلك لحمايتهم من أشعة الشَّمس أو من المَطر، وهذا يحدث عموماً في حالات الزَّفاف أو المآتم.
هنا يلزمُ شادر، أين نجد شادراً، أحضروا شادراً وانصبوه، قد نجد شادراً عند فلان أو علّان… هل هناك من يؤجِّر شوادر! ارفعوا الشّادِر أكثر، اربطوه جيّداً، وكثيراً ما حدث أن انقطع حَبلُ الشّادر، بسبب ريح قوية أو حبلٍ ضعيف.
واضحٌ أنّها ليست كلمة عربية، لا يوجد في العربية شدَر يشدُر فهو شادر، ولكن يوجد خيّم يخيّمُ، خيمة، فهو مخيِّمٌ، واختام المكان.
يخطر في بالنا فوراً أنها كلمة تركية أو فارسية، وهذا الأرجح لأنّها تذكّر بلباس الإيرانيات المُحافظ، شادر، فحصتُ وتبيّن بالفعل أنّها فارسية، وأصلها جادر، تلفظ كالجيم المصرية، وهو الغطاء من القماش أو الخيمة.
ألم يستعمل العرب الشوادر كي يستعيروا الكلمة من الفارسية؟ استعمل العرب الخيام من الشَّعر للسَّكن وللمناسبات الكبيرة، واستخدموا شُجيرة الثُّمام لتظليل مساحات صغيرة تقيهم من القيظ، هذا يعني أن استعمالهم للشادر جاء متأخِّراً.
للشادر أهمية كبيرة في مناسباتنا، ولكننا ننساه، إلا عندما نجلس في ظلِّه في يوم حار مثل هذه الأيام الملتهبة، حينئذ تشرئب أعناقنا إليه ونقول: الشادر ممتاز.
احتجت إليه بمناسبة حفل زفاف ابني الأصغر.
يجب نصب شادر يظلِّل ساحة البيت، أين بالضَّبط وما هي الزاوية الأفضل لميلِه وكيف سيتمُّ نصبُهُ! ومَن مِن الشّبان سينفِّذون هذه المهمة؛ لأن واحداً لن يكفي! ومن أين سنحضر الشّادر! كان عندي شادر في يوم من الأيام، ولا أعرف أين انتهى أمره، قد نجد عند فلان، رأيت أمام بيت فلان شادراً، افحص عن أولاد أخوالك.
معظم فعاليات الحفل ستكون بعد السَّابعة مساءً، ابتداء من دعوة الأقرباء والأصدقاء على فنجاة قهوة، لإعلامهم ببرنامج حفل الزفاف كي يشاركونا، ثم ليلة الحنّاء ثم يوم الزَّفة والمأدبة وغيرها.
بيوت الجيران المرتفعة تظلّل السَّاحة أمام البيت ابتداء من الخامسة والنصف، تقريبًا لن نحتاج إلى شادر إلا في يوم زفّة العريس التي ستجري في الظهيرة، هذا لا يعني أن تبقى السَّاحة بلا شادر، فالشمس حارّة جداً، ومعظم العاملين والمشاركين في أعمال الفرح من إعداد طعام وواجبات أخرى سوف يمرُّون من السَّاحة وعلى أطرافها، كذلك قد يأتي ضيوف في النهار، عادة يأتي هؤلاء للتهنئة قبل الحفل الرَّسمي لانشغالٍ أو لسفرٍ، يعتذرون لعدم حضورهم الاحتفال ويهنّئون، سنضطر للجلوس في السَّاحة فالبيت لا يتّسع، ولهذا يجب تعليق الشَّادر بأسرع ما يمكن.
رغم أنَّنا نحتاج الشادر في كل بيت، سواء لفرح أو لغيره من مناسبات، إلا أنّه لا يوجد شادر في معظم البيوت، ولهذا يبحثون عنه فقط في وقت حاجته، «يا جماعة من يعرف من عنده شادر لنستعيره منه».
هناك من يؤجّرون خيمة وحبال إضاءة، وزينة وكراسي وطاولات، وملاءات وعتاد طعام من أطباق وملاعق وشوكات وسكاكين من زجاج أو معدن أو من بلاستيك مقوّى أو غيره! كذلك ثلاجات من أحجام مختلفة، ولكن لسبب ما لا يؤجّرون شوادر، ربَّما لأنّ رفعها وتعليقها وربطها يحتاج إلى عدد من الأيدي العاملة، كذلك فالشادر يعلَّق قبل الفرح وبعده لعدة أيام، والحقيقة أنَّ الحرّ الشديد الذي يجتاح العالم يُغري بإبقاء الشادر معلّقاً أطول فترة ممكنة، الكُرةُ الأرضية كلها تحتاج إلى شادر عملاق، لماذا لا تنصب الدُّول شوادِرَ عملاقة على ارتفاع مئات الأمتار فوق المدن بواسطة مناطيد مثلاً!
يحتاج الشَّادر إلى أعمدة أو زوايا متينة لتعليقه، وهذا ليس متوفّراً دائماً، قد تجد شرفة تعلّقه في عامودها أو درابزينها، وقد تحتاج إلى إنشاء عامود من الحديد أو غيره كي تربط حبل الشادر به، وهذا يحتاج إلى عمل ولحام كهرباء ومثقب وغيره، وجود شجرة في هذه الحالة في إحدى الزوايا يساعد على ربط الحبل، يحتاج هذا العمل إلى سُلِّم طويل وإلى شبَّانٍ خفيفي الهمّة، ومهم جداً أن يكون جيرانك طيّبين مستعدّين لأي خدمة تطلبها منهم.
في هذه المناسبات تعرف قيمة الجار، ترتفع أو تنخفض قيمة البيت بجيرانه، وما أكثر قصص الجوار في تراثنا العربي قبل الإسلام وبعده، وفي الحديث الشريف «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، ويحثُّ القرآن الكريم على الإحسان للجار مثل ذوي القربى.
الشادر يخفِّض درجة الحرارة بصورة حاسمة، إذ تهبط حرارة سطح الإسمنت المسلّح بحوالي ثماني درجات مئوية، إضافة إلى أنّه يسبب توجيه مجرى الهواء، نكون في أمَسِّ الحاجة إليه لتجفيف العرق.
عندما نمرُّ بمحاذاة بيت رُفع فيه شادر، نفهم تلقائياً أن في المكان حفل زفاف واستقبال مهنّئين أو حالة وفاة واستقبال مُعزّين.
قبل بضعة عقود كان المصدر الأساسي للشوادر في البلدة هو أصحاب سيارات الشحن، لأنهم يستعملونه خلال عملهم في نقل مختلف المواد، والقانون يُلزم في استعمال الشادر خلال نقل الرِّمال كي لا تتطاير من الشاحنة، كذلك استعمل الشادر في الحقول وفي بيوت الفلاحين لتغطية المحاصيل الزراعية أو لجمعها فوقه، كذلك كنا نراه بكثرة على جوانب الطرق كخيمة رفعت لبيع المحاصيل الزراعية مثل البطيخ وغيره، كذلك رأيناه في الأحداث الكبيرة، مثل اللجوء بسبب حرب، أو بسبب كوارث طبيعية كالزلازل، أو برفعه أمام بيت هدمته السُّلطات.
استعرت الشادر من أحد أنسبائي، الحمد لله انتهى حفل الزفاف بأجمل ما يكون، وقرّرت أن أبقيه معلقاً أطول مدة ممكنة في هذا الحرّ الشَّديد، ولكن في صبيحة اليوم التالي من انتهاء حفل الزفاف، رنّ هاتفي في حوالي السادسة والنصف صباحاً، وكان هذا رجلاً كان قد هنّأني قبل أيام قليلة، وجلسنا معاً في ظل الشادر. بادرني بصباح الخير، فتوقعت أمراً لأنَّ الاتصال غريب في مثل هذه الساعة، قال: مبروك زفاف الولد مرة أخرى…
-الله يبارك فيك…
– والدي أعطاك عمره قبل ساعة..
-الله يرحمه ويخلّي أولادكم..
-رأيت عندك شادر..
-صحيح، إنَّه لنسيبي..
-نحتاجه لنصبه أمام البيت، هل يمكنني استعارته؟
-الله يرحم والدك، طبعاً، ابعث أحداً ما ليأخذه.
– أرسلتُ شاباً منذ دقائق مع سيارة، إنّه في الطريق إليك، أشكرك سلفاً.
شكراً للشادر ولصاحبه.
وتبقى الشوادر المعلّقة في عنق الهواء تلوح فرحةً مع أهل الفرح، وتسكن بوجلٍ عند نحيب أهل فقيد، تحتوي كلَّ الناس. إن شاء الله نراه معلّقاً في بيوت الفرح والمناسبات السّعيدة عند الجميع.

 

 

سهيل كيوان

التعليقات على خبر: الشادِرْ…

حمل التطبيق الأن